الجارديان: نهاية الرأسمالية بدأت،، ترجمة عبدالله كمال
الأعلام الحمراء، وأغاني مسيرات حركة سيريزا خلال الأزمة اليونانية بالإضافة إلى التوقعات بتأميم البنوك، كانت كلها عوامل لإعادة إحياء حلم القرن العشرين لفترة وجيزة. الحلم هو تدمير السوق من أعلى بالقوة. في أغلب فترات القرن العشرين كانت تلك هي الطريقة التي يفهم بها اليسار أولى خطوات وجود اقتصاد ما بعد الرأسمالية. القوة تأتي من الطبقة العاملة سواء عبر صناديق الانتخاب أو في الثكنات الثورية. وتعمل الدولة كرافعة لتلك الجهود. وتتاح الفرصة لتحقيق ذلك من خلال عدد من الانهيارات الاقتصادية المتلاحقة.
لكن على مدار خمسة وعشرين عاما كان مشروع اليسار هو الذي تعرض للانهيار. نظام السوق قضى على الخطة، وحلت الفردية مكان التضامن والجمعية. تبدو قوة العمل التي توسعت بشكل هائل على مستوى العالم كبروليتاريا ولكنها لم تعد تفكر أو تتصرف كما كانت تفعل من قبل.
لو كنت ممن شهدوا تلك التغيرات، وكنت تكره الرأسمالية، فالأمر بالتأكيد كان صادما. ولكن أثناء حدوث تلك التطورات خلقت التكنولوجيا طريقا جديدا، ويجب على بقايا اليسار القديم وكل القوى المتأثرة به أن يتبنوا ذلك الطريق أو يموتون.
الرأسمالية، كما تَبَيّن، لن تنهيها المسيرات القسرية، ولكنها ستنتهي من خلال إيجاد شيء أكثر ديناميكية. هذا الشيء سيوجد أولا بشكل غير مرئي تقريبا داخل الأنظمة القديمة، حتى يتمكن من اختراقها وإعادة تشكيل الاقتصاد حول قيم وسلوكيات جديدة. وهو ما سأطلق عليه ما بعد الرأسمالية.
كما حدث في نهاية النظام الإقطاعي منذ 500 عام، سيتم تسريع عملية استبدال الرأسمالية بما بعد الرأسمالية من خلال صدمات خارجية وستتشكل تلك المرحلة بظهور نوع جديد من الإنسان. وهو الأمر الذي بدأ بالفعل.
أصبح وجود ما بعد الرأسمالية ممكنا نتيجة لحدوث ثلاثة تغيرات رئيسية خلقتها تقنيات المعلومات خلال الـ25 عاما الماضية. أول تلك التغيرات هي تقليل الحاجة إلى العمل، وجعل الفواصل بين العمل وأوقات الفراغ غير واضحة، وإضعاف العلاقة بين العمل والأجور. الموجة القادمة من الميكنة، والمتعطلة حاليا بسبب عدم قدرة البنى الاجتماعية على تحمل عواقبها، ستقلل بشكل كبير من كمية العمل المطلوبة. العمل هنا ليس من أجل البقاء فقط ولكن لتوفير حياة كريمة للجميع.
ثانيا: ساعدت المعلومات على تآكل قدرة نظام السوق على تحديد الأسعار بشكل صحيح. وذلك لأن السوق مبني على مبدأ الندرة، في حين أن المعلومات متوفرة بشكل كبير. لذلك كانت طريقة النظام في الدفاع عن نفسه هي تكوين احتكاريات، تمثلها شركات التقنية العملاقة، بشكل لم يشهده العالم خلال المائتي عام الماضيين. لكن تلك الاحتكاريات لا تستطيع الاستمرار. هذه الشركات تبني نماذج إدارة أعمال وتحدد قيمة أسهمها اعتمادا على امتلاك وخصخصة كل المعلومات التي ينتجها المجتمع. ومن ثم فإن الصرح الذي تبنيه تلك الشركات هش ويتناقض مع أكثر الاحتياجات الأساسية للإنسان: استخدام الأفكار بحرية.
ثالثا، نحن نشهد ارتفاعا عفويا في الإنتاج الجمعي، سواء على مستوى البضائع أو الخدمات أو المؤسسات التي لم تعد تستجيب لإملاءات السوق وما تتطلبه الهيكلية الإدارية. أكبر منتج معلوماتي في العالم هو ويكيبديا، الذي صنعه متطوعون بلا أجر. ساهمت ويكيبيديا في القضاء على صناعة الموسوعات وحرمت صناعة الإعلانات من أرباح سنوية تقدر بثلاثة مليارات دولار.
داخل أروقة وردهات نظام السوق، وبشكل غير ملحوظ تقريبا، بدأت مساحات كاملة من الحياة الاقتصادية تتبنى إيقاعا مختلفا. زادت مبادرات مثل العملات الموازية وبنوك الوقت، والتعاونيات والمساحات ذاتية الإدارة، بشكل يلحظه الاقتصاديون بالكاد. تلك التطورات أتت غالبا كنتيجة لانهيار الأبنية القديمة في أعقاب أزمة عام 2008.
يمكنك رؤية هذا الاقتصاد الجديد فقط لو بحثت عنه. في اليونان، عندما قامت جمعية شعبية غير هادفة للربح بعمل مسح لتعاونيات الطعام، والمنتجين بطرق بديلة، والعملات الموازية وأنظمة التبادل المحلية في البلاد وجدوا أكثر من سبعين مشروعا ناجحا ومئات المبادرات المشابهة ولكن على مستوى أصغر تتراوح بين اقتحام البيوت المهجورة والعيش بها إلى المشاركة في النقل بالسيارات وحتى الحضانات المجانية. بالنسبة لعلوم الاقتصاد السائدة فإن تلك الأشياء يمكن بالكاد اعتبارها نشاطا اقتصاديا، لكن تلك هي الفكرة. هم موجودون لأنهم يتاجرون، حتى ولو بشكل متردد وغير فعال، ويستخدمون عملة ما بعد الرأسمالية: أوقات الفراغ، وأنشطة التشبيك والأغراض المجانية. تبدو تلك الأشياء هزيلة وغير رسمية وحتى خطيرة للاعتماد عليها لبناء بديل كامل عن النظام العالمي، لكن النقد والائتمان البنكي كانا كذلك في عصر إدوارد الثالث.
أشكال جديدة من الملكية وأشكال جديدة من الائتمان وعقود قانونية جديدة. ثقافة فرعية كاملة ظهرت في مجال الأعمال خلال العشر سنوات الماضية، وأطلقت عليها وسائل الإعلام “اقتصاد المشاركة”. يُطلق البعض كلمات رنانة على تلك المشروعات مثل “المشاعيات” و”الإنتاج الندّي”، ولكن قليلون من تحملوا عناء السؤال عما تعنيه تلك التطورات على الرأسمالية نفسها.
أعتقد أنها توفر طريقا آخر خارج الطرق التقليدية، لكن هذا مرهون بتغذية تلك المشاريع متناهية الصغر والترويج لها وحمايتها من خلال تغييرات جذرية في سياسات الحكومات. هذه التغييرات يجب أن تكون مدفوعة بتغير في أفكارنا حول مفاهيم التقنية والملكية والعمل. ومن ثم عندما نخلق عناصر النظام الجديد يمكننا أن نقول لأنفسنا وللآخرين “هذه ليست محاولة للنجاة، ولا كهف لحمايتي من عالم الليبرالية الجديدة، ولكنها طريقة جديدة للحياة ما زالت في طور التشكل”.
الانهيار الذي حدث عام 2008 قضى على 13 بالمائة من الإنتاج العالمي و20 بالمائة من التجارة العالمية. وأصبح معدل النمو بالسالب على مقياس يَعتبِر أي نمو أقل من 3 بالمائة بالموجب بمثابة ركود اقتصادي. أنتجت الأزمة في الغرب فترة كساد أطول من الكساد الكبير بين عامي 1929 و 1933. ومازال علماء الاقتصاد السائد خائفين من فكرة حدوث كساد لفترة طويلة حتى في ظل التعافي البطيء الذي يشهده الاقتصاد العالمي. ولا تزال تبعات الصدمة في أوروبا تمزق القارة.
الحلول المطروحة هي حزم التقشف ومحاولة تحقيق أرباح مالية لكن تلك الحلول لم تفلح. الدول التي تأثرت بشكل أكبر خلال الأزمة، دُمرت أنظمة التقاعد فيها وارتفع سن المعاش إلى سبعين عاما ويتعرض التعليم فيها إلى الخصخصة وهو ما سيجعل الخريجين الجدد يعانون من الدين بقية أعمارهم. كما تتعرض الخدمات إلى التفكك بالإضافة إلى إيقاف مشاريع البنية التحتية.
لا يعرف الكثير من الناس حتى الآن ما هو المعنى الحقيقي لكلمة “تقشف”. التقشف ليس تقليل النفقات لمدة ثمان سنوات كما تفعل المملكة المتحدة ولا هو الكارثة الاجتماعية التي لحقت باليونان. التقشف يعني أن تنخفض المرتبات والدعم الاجتماعي ومستويات المعيشة في الغرب لمدة عقود حتى تصبح في نفس مستوى الطبقة الوسطى في الصين والهند.
مع غياب أي نموذج بديل، فإن شروط حدوث أزمة أخرى موجودة ومجتمعة. عانت الأجور الحقيقية في اليابان وجنوب منطقة اليورو والولايات المتحدة والمملكة المتحدة من انخفاض أو ركود. وظهرت مرة أخرى بنوك الظل بشكل أكبر مما كانت عليه عام 2008. القواعد الجديدة التي تطالب البنوك بالحفاظ على معدلات أكبر من الاحتياطي تم تخفيفها أو تعطيلها. في نفس الوقت جعلت النقود المجانية التي تم ضخها في الاقتصاد العالمي، نخبة الواحد بالمائة أكثر ثراءً.
تحولت الليبرالية الجديدة إلى نظام مصمم للتسبب في فشل كارثي ومتكرر. الأسوأ من هذا، أن الليبرالية الجديدة كسرت النمط الذي انتهجته الرأسمالية الصناعية على مدار 200 عام. في كل مرة تحدث أزمة اقتصادية، تظهر أشكال جديدة من الابتكارات التقنية تصب في مصلحة الجميع.
يرجع هذا إلى أن الليبرالية الجديدة كانت أول نموذج اقتصادي خلال مائتي عام يعتمد في ازدهاره على تقليل الرواتب وتدمير مرونة الطبقة العاملة والقوى الاجتماعية. عند مراجعة فترات التغير الكبيرة التي درسها منظرو دورات رأس المال على المدى الطويل والتي حدثت عام 1850 في أوروبا، وعام 1900 و1950 على مستوى العالم، سنجد أن قوة العمل المنظمة هي التي أجبرت رجال الأعمال والشركات على التوقف عن محاولات الحفاظ على نماذج عمل قديمة من خلال اقتطاع الأجور، ومساعدتهم في ابتكار طرقهم الخاصة لشكل جديد من الرأسمالية.
كانت النتيجة أنه مع كل صعود للرأسمالية، هناك ظهور لأشكال جديدة من الميكنة، مصاحب بارتفاع الرواتب وارتفاع قيمة الاستهلاك. في الوقت المعاصر، لا تملك قوة العمل القدرة على الضغط، كما أن التقنية الجديدة الموجودة في قلب موجة التجديد الحالية لا تتطلب إنفاقًا أعلى من المستهلكين، أو إعادة توظيف العمالة القديمة في وظائف جديدة. المعلومات هي ماكينة لسحق الأسعار وتقليل أوقات العمل اللازمة لدعم الحياة على الكوكب.
كنتيجة لذلك، أصبح الكثير من طبقة رجال الأعمال معادين للتقنيات الجديدة. فبدلا من الاستثمار في معامل لتحليل الحامض النووي، يقومون بافتتاح مقاهٍ ومحلات للعناية بالأظافر وشركات تنظيف. يحتفي النظام البنكي ونظام التخطيط وثقافة الليبرالية الجديدة في أطوارها الأخيرة بمن يخلق وظائف زهيدة القيمة وتتطلب ساعات عمل طويلة أكثر من أي شيء آخر.
التجديد يحدث ولكن حتى الآن لم يتسبب في الصعود الخامس الكبير للرأسمالية كما توقعته نظريات دورات رأس المال طويلة الأمد. يكمن السبب وراء هذا في الطبيعة الخاصة لتكنولوجيا المعلومات.
نحن محاطون ليس فقط بماكينات ذكية ولكن بمستوى جديد من الواقع يتمحور حول المعلومات. خذ الطائرة على سبيل المثال، يقوم حاسوب بتشغيلها، وصُممت وخضعت لاختبارات إجهاد و”صُنعت افتراضيا” ملايين المرات. وتقوم الطائرة بإرسال معلومات لصانعيها في وقت حدوث مشكلة. على متن الطائرة يشاهد الناس شاشات موصولة بالإنترنت.
عند رؤية الطائرة من الأرض، فإنها ما زالت تبدو كطائر أبيض معدني كالموجود في عصر جيمس بوند. لكنها الآن أصبحت ماكينة ذكية وتمثل نقطة في شبكة أكبر. الطائرة مزودة بمحتوى معلوماتي وتضيف “قيمة معلوماتية” بجانب القيمة الفيزيائية إلى العالم. في رحلة رجال الأعمال المزدحمة حيث يستخدم الجميع الأكسل والباور بوينت على الإنترنت، يمكن فهم كابينة الطائرة بشكل واضح باعتبارها مصنعًا للمعلومات.
ما هي قيمة كل تلك المعلومات؟ لن تجد الإجابة على هذا السؤال في دفاتر الحسابات. تعتمد المعايير الحديثة للمحاسبة على التخمين في تثمين الملكية الفكرية. في عام 2013، وجدت دراسة أجراها معهد أنظمة تحليل البيانات أنه عند تسعير المعلومات، سواء باستخدام تكلفة جمعها أو قيمتها السوقية أو الدخل المتوقع منها، فإن قيمتها الحقيقة لا يمكن تحديدها بشكل صحيح. ولا يمكن للشركات شرح القيمة السوقية للبيانات التي يمتلكونها لحملة الأسهم إلا من خلال طرق حسابية تتضمن أرباح ومخاطر غير اقتصادية. هناك خلل ما في منطق تسعير أهم شيء في العصر الحديث.
التطور التقني الهائل في أوائل القرن الواحد والعشرين لا يشمل فقط ابتكار أدوات وطرق جديدة ولكنه يتضمن أيضا جعل أشياء قديمة تصبح أكثر ذكاءً. المحتوى المعرفي للسلع أصبح أكثر أهمية من الأشياء المادية المستخدمة في إنتاجهم. لكن تلك القيمة لا يمكن قياسها إلا من خلال فائدتها وليس بقدرتها على المبادلة أو القدرة على مراكمتها كأصول. خلال فترة التسعينات، بدأ الاقتصاديون ورواد التقنية يفكرون في نفس الشيء، وهو أن الدور الجديد الذي تلعبه المعلومات سيخلق نوعًا ثالثًا جديدًا من الرأسمالية يختلف عن الرأسمالية الصناعية، كما كانت الرأسمالية الصناعية تختلف عن رأسمالية التجار والعبيد التي كانت موجودة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. لكن كلا الفريقين وجد صعوبة كبيرة في توصيف ديناميكيات تلك الرأسمالية الجديدة. هذا العجز يعود إلى أن تلك الديناميكيات في عمقها ليست رأسمالية.
خلال الحرب العالمية الثانية وما تلاها كان علماء الاقتصاد يرون أن المعلومات “سلعة عامة”، حتى أن الحكومة الأمريكية أصدرت مرسوما يمنع استخدام براءات الاختراع نفسها في تحقيق أرباح ولكنه يسمح بالتربح من عملية الإنتاج. كانت تلك هي بداية فهم حقوق الملكية الفكرية. في عام 1962، قال كينيث أرو، أحد آباء علوم الاقتصاد السائدة، إن الغرض من اختراع أشياء جديدة في اقتصاد السوق هو خلق حقوق ملكية فكرية. وأضاف “تحديدا بسبب النجاح الكبير لتلك الاستراتيجية، فإن المعلومات لا تستخدم بشكل جيد”.
يمكنك ملاحظة مدى دقة هذا الكلام عند تطبيقه على أي نموذج لإدارة الأعمال التي أُسست على شبكة الإنترنت. الاحتكار وحماية البيانات، وتحصيل البيانات الاجتماعية الناتجة عن تفاعل المستخدم، ودفع القوى التجارية إلى مساحات من الإنتاج المعلوماتي كانت غير تجارية قبل ذلك، بالإضافة إلى التنقيب داخل البيانات الموجودة بسبب قيمتها التنبؤية. دائما وفي كل مكان يتم التأكد من أنه لا يمكن لأي أحد غير الشركة استخدام النتائج.
لو استخدمنا مبدأ أرو بشكل مقلوب، فإن مضامينه الثورية شديدة الوضوح. لو أن وجود اقتصاد سوق حر مضافا إليه الملكية الفكرية سيؤدي إلى عدم الاستفادة من المعلومات بشكل جيد، فإن الاقتصاد الذي يعتمد على الاستخدام الأمثل للمعلومات لا يمكن أن يتضمن السوق الحرة أو حقوق الملكية الفكرية المطلقة. كل نماذج إدارة الأعمال التي تنتهجها الشركات الرقمية العملاقة الحديثة مصممة لمنع توافر المعلومات.
ولكن المعلومات متوفرة بغزارة. السلع المعلوماتية يمكن نسخها بسهولة. بمجرد إنتاج أي شيء، يمكن نسخه ولصقه عددًا لا نهائيًا من المرات. هناك تكلفة لإنتاج مقطع موسيقي أو لتصميم قاعدة البيانات العملاقة المستخدمة في بناء طائرة، لكن تكلفة إعادة إنتاجهما تقترب من الصفر. ومن ثم لو تم تطبيق قواعد التسعير الرأسمالية العادية، ستقترب أسعار تلك المنتجات مع مرور الوقت من الصفر أيضا.
خلال الخمسة وعشرين عاما الأخيرة كانت علوم الاقتصاد تصارع تلك المشكلة. كل علوم الاقتصاد السائدة تنطلق من افتراض حالة الندرة، وعلى الرغم من ذلك فإن أهم قوة تفاعلية في عالمنا الحديث موجودة بوفرة غزيرة أو كما قال العبقري الهيبي ستيوارت براند “تريد أن تتحرر”.
بجانب عالم احتكار المعلومات والمراقبة الذي خلقته الشركات والحكومات، هناك ديناميكيات جديدة تظهر للتعامل مع استخدام المعلومات. من بينها المعلومات كسلعة اجتماعية تقدم بشكل مجاني عند استخدامها، ولا يمكن امتلاكها أو استغلالها أو تسعيرها. لقد قمت بمتابعة محاولات الاقتصاديين وكبار رجال الأعمال إيجاد إطار عمل لفهم الديناميكيات التي تحرك اقتصادًا يعتمد على معلومات متوفرة ويمتلكها الناس. في عصر التلغراف والمحرك البخاري، تخيل أحد الاقتصاديين كيف سيكون الأمر. اسمه؟ كارل ماركس.
المكان في بلدة كينتش في لندن، شهر فبراير عام 1858 قرابة الساعة الرابعة صباحا. ماركس ملاحق أمنيا في ألمانيا، ويعمل بجهد لكتابة تجارب فكرية وملاحظات لنفسه. لكن عندما سيُرى ما كتبه ماركس تلك الليلة، سيعترف مثقفو اليسار عام 1960 أن المكتوب “يمثل تحديا لأي فهم جدي طرحه أي شخص لماركس حتى الآن”. ما كتبه ماركس تلك الليلة حمل عنوان “شذرات عن الآلة”.
يتخيل ماركس في الشذرات اقتصادًا تقوم فيه الآلات بلعب الدور الرئيسي في الإنتاج بينما يكون دور البشر الأساسي هو الإشراف عليها. كان واضحا له أن اقتصادًا كهذا ستكون قوة الإنتاج الرئيسية فيه هي المعلومات. آلات مثل آلة غزل القطن والتلغراف والقاطرة البخارية لم تكن تعتمد على مقدار العمل الذي تحتاجه للإنتاج، ولكن القوة المحركة لها كانت تعتمد على معرفة اجتماعية. بعبارة أخرى، فإن المعرفة والمؤسسات ساهما في قوة الإنتاج بشكل أكبر من العمل المطلوب لصناعة وتشغيل الآلات.
هذا الكلام ثوري، بغض النظر عما أصبحت عليه الماركسية من نظرية استغلال تعتمد على سرقة وقت العمال. يقول ماركس إنه بمجرد أن تصبح المعرفة قوة إنتاج في حد ذاتها تتجاوز قيمتها قيمة العمل الحقيقي المبذول لصناعة الآلة، فإن السؤال الأساسي لن يكون “الأرباح في مواجهة الأجور” ولكن من يتحكم فيما أطلق عليه ماركس “قوة المعرفة”.
عندما تقوم الآلات بالحصة الأكبر من العمل في اقتصاد ما، فإن طبيعة المعرفة الموجودة داخل الآلات يجب أن تكون، كما يكتب ماركس، “اجتماعية”. في آخر تجاربه الفكرية تلك الليلة تخيل ماركس نقطة النهاية في هذا المسار: خلق “الآلة المثالية”، والتي ستكون تكلفتها صفر ويمكنها البقاء للأبد. يقول ماركس إن الآلة التي يمكن بناءها من لاشيء، لن تضيف قيمة إلى عملية الإنتاج، وبشكل متسارع وبمرور الوقت، ستقلل الأسعار والأرباح وتكلفة العمل وكل شيء تلمسه.
بمجرد أن تفهم أن المعلومات هي شيء فيزيائي، وأن أنظمة التشغيل هي الآلة، وأن سعة التخزين ونطاقات التردد وقوة وحدات المعالجة تنهار أسعارها بمعدلات متضاعفة، فإن أفكار ماركس ستصبح أكثر وضوحا. نحن محاطون بآلات لا تكلفنا شيئا ونستطيع، إن أردنا ذلك، أن نجعلها تعمل إلى الأبد.
في تلك التأملات التي نُشرت أواسط القرن العشرين تخيل ماركس أن المعلومات تُخزن ويتم مشاركتها من خلال شيء أسمه “العقل العام”. وهو عقل كل شخص موجود على الأرض متصل معا من خلال المعرفة الاجتماعية والتي يستفيد كل الناس من أي تجديد لها. باختصار، تخيل شيئا قريبا من اقتصاد المعلومات الذي نحيا فيه، وكتب أن وجود هذا الشيء “سينسف الرأسمالية تماما”.
مع تغير المشهد، فإن تصورات اليسار في القرن العشرين عن ما بعد الرأسمالية انتهت.
هناك طريق آخر يظهر. الإنتاج الجمعي واستخدام تقنيات الشبكات لإنتاج سلع وخدمات لا تصلح إلا للاستخدام المجاني أو للمشاركة، هو ما يحدد الطريق إلى ما بعد نظام السوق. سيتطلب الأمر من الدول أن تحدد إطارا للعمل كما فعلت من قبل في أوائل القرن التاسع عشر بخصوص عمال المصانع، وصك العملات والتجارة الحرة. في الأغلب، سيتواجد قطاع ما بعد الرأسمالية جنبا إلى جنب مع قطاع السوق لعقود، لكن تغييرا كبيرا يحدث.
استعادت الشبكات نسيج مشروع ما بعد الرأسمالية. وأصبح من الممكن أن تكون الشبكات أساسًا لنظام غير سوقي يمكنه تكرار نفسه دون الحاجة إلى إعادة إنتاج نسخة جديدة كل صباح على شاشة الحاسوب.
سيساهم في عملية التحول كل من الدولة والسوق والإنتاج التعاوني الذي يميز مرحلة ما بعد السوق. لكن كي يحدث هذا يجب على اليسار بكافة أطيافه، من مجموعات التظاهر وصولا إلى أحزاب الاشتراكيين الديموقراطيين والليبراليين الرئيسية، أن يعيد تشكيل مشروعه. في الواقع، فإن فهم الناس لمنطق عملية التحول نحو ما بعد الرأسمالية سيجعل تلك الأفكار ليست حكرًا على اليسار فقط، بل ستكون جزءًا من حركة أوسع تحتاج إلى مسميات جديدة.
من يستطيع احداث هذا التحول؟ في مشروع اليسار القديم كانت الطبقة العاملة الصناعية هي المنوط بها القيام بهذا التحول. منذ أكثر من مائتي عاما، حذر الصحفي الراديكالي جون ثيلوال من يبنون المصانع الإنجليزية من أنهم يخلقون شكلًا جديدًا وخطيرًا من الديموقراطية. وقال ثيلوال “كل ورشة كبيرة أو مصنع هو نوع من المجتمع السياسي، لا يستطيع أي برلمان إسكاته، ولا تستطيع أي محكمة حله”.
اليوم المجتمع كله عبارة عن مصنع، حيث نشارك جميعا في إنتاج وإعادة إنتاج العلامات التجارية والعادات والمؤسسات المحيطة بنا. في نفس الوقت، تعج شبكات التواصل، والتي تلعب دورا حيويا في إنجاز الأعمال اليومية، بالمعرفة المشتركة والاستياء. الشبكات اليوم مثل المصانع قبل مائتي عام “لا يستطيع أحد إسكاتها أو حلها”.
بالطبع تستطيع الدولة إغلاق فيسبوك وتويتر، بل ويمكنها غلق الإنترنت بالكامل وحتى شبكات الهواتف في أوقات الأزمات، ولكن الاقتصاد سيتعرض للشلل خلال تلك العملية. يمكن للدولة أن تقوم بتخزين ومراقبة كل كيلوبايت من المعلومات ينتجه الناس، ولكن لا يمكن إعادة فرض المجتمع، الطبقي والمدفوع بالدعاية والجاهل، الذي كان موجودا قبل خمسين عاما دون التخلص من أجزاء مفتاحية للحياة العصرية كما في حالة الصين أو كوريا الشمالية أو إيران. الأمر سيكون كمحاولة إلغاء الكهرباء في دولة ما، كما يقول عالم الاجتماع مانويل كاستياس.
بسبب وجود ملايين البشر المتصلين بشبكات مختلفة، والمُستَغلين ماديا، بالإضافة إلى وجود الذكاء الجمعي للبشرية على بعد حركة واحدة من إبهامك، خلقت الرأسمالية المعلوماتية عاملًا جديدًا للتغيير: البشر المتعلمين والمتصلين ببعضهم.
ما نتحدث عنه سيكون أكبر من مجرد تحول اقتصادي. بالطبع هناك مهام أخرى عاجلة يمكن فعلها بالتوازي مثل إنهاء استخدام الكربون في العالم والتعامل مع القنابل الموقوتة سواء المالية أو الديموغرافية. لكني هنا أركز على التحول الاقتصادي المدفوع بالمعلومات لأنه، وحتى هذه اللحظة، مازال مهمشا. يُنظر الآن إلى المشاركة الندّية باعتبارها هوسا يصيب بعض منظري المستقبل، بينما يكتفي “كبار” منظري الاقتصاد اليساريين بانتقاد حزم التقشف.
في الواقع، فإن بلدان مثل اليونان تتجاور فيها جهود مقاومة التقشف، مع محاولات خلق “شبكات لا يمكن إعلان إفلاسك فيها”، كما وصفها لي أحد النشطاء هناك. والأهم من كل هذا أن مفهوم ما بعد الرأسمالية يتعلق بإيجاد أشكال جديدة من السلوك الإنساني لا يراها الاقتصاد التقليدي مؤثرة.
إذا كيف يمكن تخيل التحول الذي سيحدث في المستقبل؟ المرجع الوحيد المتماسك الذي يمكن الإحالة إليه هو التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية. وبفضل علماء الأوبئة والجينات وتحليل البيانات أصبحنا نعرف أكثر بكثير مما كنا نعرفه قبل خمسين عاما عندما كانت دراسة تلك الفترة في يد علوم الاجتماع. أول شيء يجب الاعتراف به أن أنماط الإنتاج المختلفة تنبني حول أشياء مختلفة. الإقطاع كان نظاما اقتصاديا مبنيا على عادات وقوانين تتمحور حول مفهوم “الالتزام”. الرأسمالية مبنية حول شيء اقتصادي بحت وهو السوق. نستطيع التنبؤ من هذا أن ما بعد الرأسمالية، والتي تمثل الوفرة شرط وجودها، لن تكون نسخة معدلة من مجتمع السوق المتشابك. لقد بدأنا بالكاد في تخيل صورة إيجابية عن ماهية النظام الجديد.
أنا لا أقصد التهرب من السؤال، وأعتقد أن المتغيرات الاقتصادية العامة لمجتمع ما بعد الرأسمالية عام 2075 على سبيل المثال يمكن تحديدها. لكن في حالة وجود هذا المجتمع المبني على الحرية الإنسانية وليس الاقتصاد، فإن ما سيقوم بتشكيله هو أشياء غير متوقعة.
على سبيل المثال، كان السوق بكل ما يستدعيه من أنماط جديدة في السلوك والأخلاق هو أكثر الأشياء وضوحا بالنسبة لشكسبير عندما كان يكتب عام 1600. بمد الخط على استقامته، ستكون أكثر الأشياء “الاقتصادية” وضوحا بالنسبة لشكسبير عام 2075 هي الثورة الكاملة في ما يتعلق بالعلاقات بين الجنسين أو الجنسانية أو الصحة. ربما لن يكون هناك حقوق ملكية فكرية للمسرحية على الإطلاق، وربما ستتغير طبيعة الوسائط التي نستخدمها لحكي القصص. بالضبط كما تغيرت عندما بُنيت المسارح العامة للمرة الأولى في لندن في عصر إليزابيث.
دعنا نفكر في الفروق بين شخصية هوراشيو في هاملت وشخصية مثل دانيل دويس في دوريت الصغيرة لديكينز. كلاهما مهووس بشكل دلالي بالتقدم في السن. هوراشيو مهووس أيضا بالفلسفة الإنسانية، لكن دويس له هوس بالحصول على براءات لاختراعاته. شخصية مثل دويس لا يمكن أن توجد عند شكسبير، في أفضل الأحوال سيحصل على دور صغير كشخصية كوميدية تنتمي للطبقة العاملة. ولكن في العصر الذي كتب فيه ديكينز شخصية دويس كان جميع القراء يعرفون شخصا واحدا على الأقل يشبهه. كما لم يستطع شكسبير تخيل دويس، نحن أيضا لا نستطيع تخيل نوع المجتمع البشري الذي سيوجد عندما لا يكون محور الحياة هو الاقتصاد. لكننا نستطيع رؤية أنماط في طور التشكل موجودة في حيوات الشباب من مختلف أنحاء العالم، هؤلاء الذين يكسرون حواجز القرن العشرين حول مفاهيم الجنسانية والعمل والإبداع والنفس.
كانت أولى صدامات النموذج الإقطاعي الزراعي هو حدوده البيئية ثم بعد ذلك أتت صدمة خارجية هائلة وهي الموت الأسود (الطاعون). ثم أعقب ذلك الصدمة الديموغرافية والتي حدثت نتيجة قلة أعداد العمال القادرين على العمل في الأرض الزراعية. وهو بدوره ما أدى إلى رفع الأجور وجعل من المستحيل فرض النظام الإقطاعي القديم القائم على الالتزام. ساهم نقص العمالة أيضا في إحداث طفرة في الابتكارات التقنية. كانت التقنيات الجديدة المواكبة لصعود الرأسمالية التجارية هي تقنيات تساهم في تنشيط التجارة (الطباعة والمحاسبة) وتخلق طرقًا لتبادل الثراوت (التعدين والبوصلة والسفن السريعة) وتزيد الإنتاجية (الرياضيات والبحث العلمي).
خلال مرحلة التحول الرأسمالي كان هناك شيء حاضر باستمرار لكن النظام القديم كان ينظر إليه باعتباره غير هام. هذا الشيء هو النقد والائتمان، والذي أصبح أساس النظام الجديد. كانت الكثير من العادات والقوانين في زمن الإقطاع مصممة حول فكرة تجاهل النقود، وكان الائتمان في المراحل العليا للإقطاع يعتبر خطيئة. لذلك عندما كسر النقد والائتمان الحدود لخلق نظام السوق، شعر الجميع بأن ثورة قد حدثت. بعد ذلك، مُنح النظام الجديد طاقته عن طريق اكتشاف مصدر غير محدود تقريبا للثروة المجانية في الأمريكتين.
هذه العوامل مجتمعة ساهمت في تصدير أشخاص همشهم الإقطاع مثل الإنسانيين والعلماء والحرفيين والمحاميين والوعاظ الجذريين وكتاب المسرحيات أمثال شكسبير، لقيادة مرحلة التحول الاجتماعي. خلال لحظات مفصلية، وإن كان بشكل مؤقت في البدايات، تحول موقف الدولة من عرقلة التغيير إلى الترويج له.
ما يؤدي اليوم إلى تآكل الرأسمالية، وهو ما تستوعبه علوم الاقتصاد السائدة بالكاد، هو المعلومات. أغلب القوانين المتعلقة بالمعلومات تحفظ حقوق الشركات في تخزينها وحقوق الدول في الولوج إليها دون النظر إلى حقوق المواطنين. ما يعادل الصحافة المطبوعة والبحث العلمي اليوم هو تقنيات المعلومات وما تضفيه على كل التقنيات الأخرى سواء في مجال الجينات أو النظام الصحي أو الزراعة وحتى الأفلام، حيث تساعد المعلومات على تخفيض النفقات.
المعادل المعاصر للركود الطويل الذي صاحب أواخر الإقطاع هو تعطيل انطلاق الثورة الصناعية الثالثة. فبدلا من الإسراع في إحلال الآلة مكان العمل، أصبح الأمر مقتصرا على خلق ما يسميه دايفيد جرايبر “وظائف تافهة” بأجور منخفضة. بالإضافة إلى معاناة اقتصادات عدة من الركود.
ما هو المعادل للمصدر الجديد للثروة المجانية؟ ليست ثروة تحديدا ولكنها “الإضافيات”. الأشياء المجانية والرفاهية التي ينتجها التفاعل الشبكي. صعود الإنتاج غير السوقي والمعلومات التي لا يمكن امتلاكها وشبكات النظراء والشركات التي تعمل بلا إدارة. الإنترنت كما يصفه عالم الاقتصاد الفرنسي يان موليير- بواتنج “هو كل من السفينة والمحيط” عندما نتحدث عن المعادل المعاصر لاكتشاف العالم الجديد. في الحقيقة أنه السفينة والبوصلة والمحيط والذهب.
الصدمات الخارجية المعاصرة واضحة، نقص الطاقة والتغير المناخي وشيخوخة السكان والهجرة. هذه العوامل تقوم بتغيير ديناميكيات الرأسمالية وتجعلها عاجزة عن الاستمرار على المدى الطويل. ليس لتلك الأشياء نفس تأثير الموت الأسود، ولكن كما رأينا في نيو أورلينز عام 2005، لا يحتاج الأمر إلى طاعون لتدمير النظام الاجتماعي والبينة التحتية الفعالة في مجتمع فقير ومعقد ماليا.
لو فهمنا التحول القادم بتلك الطريقة، فإننا لا نحتاج إلى خطة محسوبة بدقة مدتها خمس سنوات. ما نحتاجه هو مشروع يهدف إلى توسيع التقنيات وأنماط الأعمال والسلوكيات التي تذيب قوى السوق. بالإضافة إلى المعرفة الاجتماعية وإنهاء الحاجة إلى العمل ودفع الاقتصاد نحو الوفرة. أنا أطلق عليه المشروع صفر، لأنه يهدف إلى إيجاد نظام طاقة تصل نسبة الكربون فيه إلى صفر، وإنتاج آلات ومنتجات وخدمات بتكلفة قيمتها صفر، وتقليل العمل الضروري إلى نسبة تقترب قدر الإمكان من الصفر.
أغلب المنتمين إلى اليسار في القرن العشرين اعتقدوا أنهم لا يمتلكون رفاهية التحول المنظم. كانوا مؤمنين بأنه لا يوجد شيء في النظام الجديد يمكن أن يوجد داخل النظام القديم، لذلك سعت دائما الطبقة العاملة إلى خلق واقع بديل داخل “وعلى الرغم من” الرأسمالية. وبمجرد انتهاء إمكانية التحول على النمط السوفيتي، أصبح اليسار المعاصر مشغولا بمعارضة أمور من قبيل خصخصة النظام الصحي والقوانين المناهضة للنقابات واستخراج النفط من الصخور.. والقائمة تطول.
لو كنت مصيبا فيما أقول فإنه من المنطقي الآن بالنسبة لمؤيدي ما بعد الرأسمالية التركيز على بناء بدائل داخل النظام، واستخدام القوة الحكومية بشكل جذري ومختلف، وتوجيه كل طاقاتنا ناحية هذا التحول، وليس محاولات الدفاع عن عناصر عشوائية داخل النظام القديم. يجب أن نتعلم التفريق بين العاجل والمهم، وأنهم أحيانا لا يتقاطعان.
قوة الخيال ستصبح حاسمة. في المجتمع المعلوماتي لا تهدر أي فكرة أو نقاش أو حلم، سواء حدثت في خيمة أو في زنزانة أو على طاولة كرة قدم مصغرة لشركة ناشئة.
خلال التحول إلى ما بعد الرأسمالية يستطيع العمل المبذول في مرحلة التصميم إلى تقليل الأخطاء في مرحلة التنفيذ، كما هو الحال في التصنيع الافتراضي. يمكن أن يكون تصميم عالم ما بعد الرأسمالية، كما هو الحال في البرمجيات، مجزأ، بحيث يستطيع أناس مختلفون من أماكن مختلفة العمل على المشروع بسرعات مختلفة، بينما يتمتعون باستقلالية نسبية عن بعضهم. لو أن لدي القدرة على استدعاء شيء واحدا إلى الوجود دون مقابل سيكون معهدًا عالميًا يمثل النمط الصحيح للرأسمالية. نموذج مفتوح المصدر للاقتصاد يكون رسميا ورماديا وأسود. كل تجربة تجري من خلاله ستساهم في إثرائه، وسيكون مفتوح المصدر ويحتوي على عدد من نقاط البيانات يعادل أكثر الأنظمة البيئية تعقيدا.
التناقض الرئيسي في عالمنا اليوم يحدث بين إمكانية الحصول على المعلومات والحرية والسلع الوفيرة، ونظام قائم على الاحتكار والبنوك والحكومات التي تحاول إبقاء كل شيء شحيح وتجاري وخاص. كل شيء في النهاية يصل إلى الصراع بين الشبكات والتراتبية، بين الأشكال القديمة من المجتمع التي صُممت حول الرأسمالية والأشكال الجديدة التي ستحدد ما سيأتي لاحقا.
هل من المثالية أن نعتقد أننا على حافة تطور يتجاوز الرأسمالية؟ نحن نعيش في عالم يستطيع النساء والرجال المثليين فيه أن يتزوجوا، عالم جعلت وسائل منع الحمل فيه المرأة خلال الخمسين عاما الماضية أكثر حرية من أكثر المتحررات جموحا في عصر بلومزبري. لماذا إذن نجد صعوبة في تخيل الحرية الاقتصادية؟
إنهم النخبة المنعزلون خلف النوافذ القاتمة لسياراتهم الفارهة، والذي يبدو مشروعهم بائسًا كمشروع طوائف الألفية في بداية القرن التاسع عشر. الديموقراطية التي تديرها فرق مكافحة الشغب والساسة الفاسدون والصحافة المُحتكرة والدولة القائمة على المراقبة تبدو مزيفة وهشة كما كانت تبدو ألمانيا الشرقية منذ ثلاثين عاما.
كل القراءات في التاريخ البشري يجب أن تسمح بوجود احتمالية وجود نتيجة سلبية. تلك الفكرة تطاردنا في أفلام الموتى الأحياء وأفلام الكوارث وأفلام ما بعد نهاية العالم كفيلمي الطريق وإليزيام. ولكن ما الذي يمنعنا من تكوين صورة عن الحياة المثالية المبنية على المعلومات الوفيرة والعمل غير التراتبي وفصل العمل عن الأجور؟
ملايين الناس بدأوا في إدراك أنهم اشتروا حلما يتناقض مع ما يمكن تحقيقه في الواقع. رد فعلهم كان الغضب، والتوجه نحو أشكال قومية من الرأسمالية يمكن أن تساهم فقط في تمزيق العالم. رؤية تلك التيارات المتصاعدة، من الأجنحة اليسارية داخل حركة سيريزا المؤيدة لخروج اليونان من منطقة اليورو إلى الجبهة الوطنية بالإضافة إلى انعزال اليمين الأمريكي، تبدو كما لو كنا نرى الكوابيس التي عانينا منها خلال أزمة ليمان برازرز تتحقق.
نحتاج إلى ما هو أكثر من الأحلام المثالية والمشاريع الأفقية صغيرة الحجم. نحتاج إلى مشروع قائم على العقل والدلائل والتصميمات المُختبرة. مشروع يتقاطع مع حركة التاريخ ويمكنه الاستمرار على الكوكب. ويجب أن نبدأ فيه في أسرع وقت.